الأربعاء، 30 مارس 2011

الماء الآسن،
اعتصامات عمان وما قادت إليه
محمد المحروقي
22 مارس 2011م

يذكر مؤرخ عمان الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، في كتابه "تحفة الأعيان بتاريخ أهل عمان" قصة لها مغزى فيما نحن بصدد الحديث عنه، عندما يذكر سيرة الإمام غسان بن عبدالله اليحمدي، الذي ولي الإمامة بعمان أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجريين. يقول السالمي:
"عظمت النعمة على أهل عمان، واطمأن الناس برًا وبحرًا وكثرت الخيرات، وعظمت البركات وبورك لهم في الأثمار، وربحت التجّار وانبسطت الفضائل من الله عزوجل، فلم تزل الأمطار فياضة على عمان، بحيث ترى الأودية جارية والصحاري خضرا والجبال كذلك، وليس على الأمة مهم يزعجهم أو كارث يهمهم.
... وكان الإمام غسان رحمه الله يخرج يزور قبر الوارث رحمه الله (إمام سابق مات شهيداً في محاولة إنقاذ مسجونين من إغراق الوادي إياهم)، ويمشي على الغيل في الوادي يفعل ذلك كل جمعة، فيبقى هناك فيغتسل في ذلك الغيل، ثم يعود إلى الجامع لأداء فريضة الجمعة، ثم يرجع إلى الحصن. واتخذ ذلك عادة، وكان يتفقد الأحوال ويراعي بأحاسيسه نعم الله تعالى، فيرى الماء صافيًا كأنما سال ذلك اليوم، حتى رأى في بعض الأيام بالماء طحلبًا فاقشعر جلده وتأوه. وقال في نفسه: لعل حدثًا وقع فتأثر منه هذا الماء،فراجع نفسه فلم يجد عليها شيئاً، ونظر إلى الأمة وإذا بها في أوفر النعم وأكمل الأحوال. ولم يزل يقول في نفسه إن هذا أثر عن تغيير،مع أن الطحلب عادة في المياه إذا طال بها العهد. فأحضر أهل الأموال (أي أصحاب المزارع)، .. وقال لهم: أريد أحرب الهند وبيت المال لا يكفي، وأريد أن أجعل على التجار قرضا يكون أداؤه من بيت المال…  أشاوركم في ذلك فماذا ترون؟
فقال أصحاب الأموال: أيها الإمام، التجار يسعون بالفائدة ..، وإن قلّت دراهمهم ضاعت المعاملة بيننا وبينهم، ونحن أرباب الأموال والقرضة علينا بما تريد. فقال: طيب. وأسرّها في نفسه  .. (ثمّ دعى بالتجار وقال لهم مثل ذلك) ، فقال التجار: أيها الإمام أصحاب الأموال أهل حرث، وأكثر الحروب غالبا لا تكفى مغرم ما عليها، ... وليس في أيديهم شيء مما يكفي لذلك، ولكن نحن عندنا ما يريد الإمام. فقال الإمام في نفسه: هؤلاء كالأولين لا غِيَر عندهم.
ثم أحضر الوزراء وأرباب الدولة المسئولين فيها، فقال لهم: أريد أن أجعل قرضا على أرباب الأموال والتجار في بيت مال المسلمين لحرب الهند، فما ترون؟ فقال له هذا الفريق الثالث: أيها الإمام هذا شيء وقع في نفوسنا من قبل. فقال في نفسه رحمه الله العلة ها هنا.
.. فلما استقرّ عند الإمام محل الغِيَر قام فاستبدل بهم غيرهم، ثم خرج في الجمعة الآتية وهو يريد زيارة الوارث، وفي النفس التفات إلى ما وقع له، فنظر في الغيل فلم ير شيئا مما رآه سابقا، فشكر الله على ما وفق له من النظر في مصالح الأمة التي هو مسئول عنها، فأكرم بغسان وأكرم بأعماله في عمان".
مدلولات القصّة واضحة من وجوب تفقّد الراعي لأمور الرعيّة، وإصلاح فسادها قبل الاستفحال، ومحاسبة الذات أولاً، ثمّ مساءلة بقيّة شرائح المجتمع. وبعد أن تتضح الصورة على الراعي أن يتخذ القرارات الصعبة لمعالجة الفساد، حتى وإن كان إصلاحه يقتضي إبعاد أقرب المقرّبين.
إنّ الماء الآسن الذي نظره الإمام غسان ليس بالضرورة أن يكون الأمر قد جرى بحرفيته كما تذكره هذه القصّة التاريخية، وإنما أبصر الإمام ماء القلوب فاستشعر الخطر، وبدأ البحث عن أسبابه. إنّ منهجيّة كثير من المؤرخين المسلمين تصوغ الأحداث في قالب ديني، قد يكون أقرب إلى الأسطورة أحياناً، لكن ذلك لا ينفي قاعدتها الواقعيّة التي انطلقت منها. فثمة فساد حدث زمن هذا الإمام، وثمّة تحقيق جرى حوله، وثمّة قرارات حازمة اتخذت لمعالجة ذلك الفساد. وهو لبّ ما نريده. فالشعوب بطبيعتها تنحو إلى العدالة والحريّة. قد يقود ذلك الراعي، وقد يقوم به الرعاة. هي إذن استعارة "الماء الآسن" للدلالة على الفساد في صوره المختلفة.
وفي العصر الحديث مرّت على عمان أربعة عقود عجاف وطّدت الجهل والتخلّف والظلم ، وعاشت خلالها البلاد ما يشبه العصور الوسطى. كان المرض سيد الميدان الحقيقي، يقضي على الصغير والكبير. ومن نجى منه افترسه الجهل، فعانى بقية حياته صنوف الشقاء. وتغرّب العماني في البلاد المجاورة ليقوم بالأعمال المهنيّة البسيطة. وكادت تُمحى صورة السيّد العماني الذي عبر البحار وملك شرق أفريقيا وملك مدناً في الهند وفارس. وكانت عمان الكبرى إمبراطوريّة مترامية الأطراف. لا نتحدث عن الماضي السحيق وإنما عن الماضي القريب. ففي القرن التاسع عشر الميلادي كان أسطول عمان البحري أقوى الأساطيل على المحيط الهندي، بعد أساطيل المستعمرين الغربيين. وكانت الدولة العثمانيّة تستعين كثيراً به ضد الفرس الذي كانوا يهددون الخليج والعراق. وقد تمكنت بحريّة السيّد حمد بن سعيد البوسعيدي من كسر الحصار الذي فرضه شاه عباس على البصرة، وأنقذها. وظلت البصرة تدفع مقابلاً لعمان لحمايتها. أمّا القديم فالإشارة كافية إلى دور العمانيين الكبير في نشر الإسلام في الهند وما يليها، وما إليها. وكذلك دور القادة العمانيين في توطيد نفوذ دولة بني أميّة، كما هو الحال لدى المهلب بن أبي صفرة والي الأمويين الشهير، وحربه للخوارج وتخليص البصرة منهم حتى سمِّيت ببصرة المهلب.
هذه إشارات مجملة إلى حنكة الإنسان العماني السياسيّة والبحريّة مما يعطي صورة تقريبيّة عن ثراء وانفتاح إنسان عمان على العالم منذ القديم. إلا أن العقود الأربعة المشار إليها قضت على الكثير من ذلك المجد القديم حتى جاءت سنة 1970م ، لتشهد البلاد عهداً من الإصلاح قاده السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور البوسعيدي الذي نحّى والده عن الحكم في انقلاب أبيض استبشرت به عمان من أقصاها إلى أقصاها. كانت الآمال كبيرة والهمّة عالية فعاد أبناء عمان المهجّرين في زنجبار ودول الجوار للمشاركة الفاعلة في النهضة التي تشهدها البلاد. وساعد اكتشاف النفط على دعم مشاريع الحكومة التنمويّة في جميع المجالات، ابتداءً بالتعليم ومروراً بالصحة والطرق وغيرها. وأطلق السلطان مقولته المشهورة في بداية السبعينات: "سنعلّم أولادنا ولو تحت ظل الشجر". هكذا انتشرت المدارس في ربوع البلاد بأبسط الإمكانيّات. كانت المدارس عبارة عن خيام، وفي الجوار منها كانت تنشأ المدرسة من البناء الثابت. ولا وقت للانتظار.
سارت عجلة التنمية متسارعة تحت إشراف مباشر من السلطان نفسه. ونعمت عمان بالأمان الداخلي وبسمعة خارجيّة جيدة. سياستها الناجحة في التركيز على الشأن الداخلي وعدم التدخّل في شؤون الغير حققت لها نجاحاً منقطع النظير في المنطقة. فعندما اضطربت الأوضاع أبّان حرب الخليج الأولى ثم الثانية ، وكانت المنطقة على صفيح ساخن، كانت عمان بعيدة كلّ البعد عن القلق والتوتر من صواريخ سكود العراقيّة وغيرها.
ماذا حدث يوم 27 فبراير 2011م؟ ولماذا؟
شهد الفترة 1970 – 1990 تركيزاً كبيراً على البناء. وتبنّت الدولة سياسات متحفّظة في التعليم العالي والشورى، لم يكن لها أن تصمد على المدى الطويل. ففي مجال التعليم العالي لم تكن الفرصة متاحة للكثيرين من خريجي الثانويّة العامة، بله الجميع؛ إذ لا توجد سوى جامعة حكوميّة واحدة. فتحت لاحقاً جامعات خاصة أقل من العشر إلاّ أنها غير متاحة للكثيرين بسبب ارتفاع رسوم الدراسة العالي فيها. أمّا فرص البعثات الخارجيّة التي تقدمها الحكومة فهي محدودة بشكل كبير ، وبعض منها يتمتع بها غير مستحقيها من أبناء علية القوم، الذين نافسوا الإنسان البسيط في هذه المنح. كشفت الوثائق في هذا الشأن فأثارت موجة من عدم الرضا والاستهجان.
يزيد خريجو دبلوم الثانوية العامة منذ سنوات عن 50 ألف طالب. لا يستوعب التعليم العالي منهم سوى ما يقل عن 10 % ، والبقيّة بعضهم يذهب إلى سوق العمل المحدود بفرصه ، إذ ينافس الأجنبيُّ المواطن بقسوة، والمحدود برواتبه، وأكثر من النصف مصيرهم الشارع. مع مرور السنوات تزايدت المخرجات بشكل كبير جداً ، وخلقت طبقة جديدة حانقة. طبقة تجد نفسها محرومة في بلد نفطيِّ، يفتح ذراعيه للوافد الأسيوي خصوصاً، ويغلقهما عن ابن البلد. اتخذت الحكومة آليّة جديدة لمعالجة هذه المشكلة أطلق عليها عمليّة "التعمين"، إلا أنها كانت بطيئة جداً ومحدودة الاستيعاب. وكانت هذه شوكة في خاصرة الحكومة.
الشوكة الثانية هي غياب الديموقراطيّة أو الشورى الحقيقيّة ، بالتسمية المحليّة. صارت الحكومة هي اللاعب الأوحد ، تعطي وتمنع، دون حسيب أو رقيب، سوى جهاز للرقابة الماليّة والإداريّة غير فاعل وغير شفّاف يعمل في الخفاء وبسريّة تامّة. أعطت الحكومة الشعب مجلساً استشارياً أولاً، ثمّ تحوّل إلى مسمّى "مجلس الشورى"، دون صلاحيّات حقيقيّة. مجلس شبه صوري. يختار بعض كثير من أعضاء على أسس خاطئة من القبليّة والرشوة بمرأى من أجهزة الدولة التي لا تنكر ذلك بل تعزّزه. بعض الأعضاء يرشون المصوّتين ، وبعضهم يزوّرون في وثائقهم الرسميّة، ولا يوجد من يوقف ذلك. إذن الأمل الوحيد في تمثيل صوت المواطن هو عضو مشكوك في نزاهته.
شوكة ثالثة نظام قضائي غير مستقل. شوكة رابعة إعلام رسميّ متخشّب، يركّز على المنجزات الواجبة ، ويعتبرها منحاً تكرّميّة. وبذلك انعدم وجود الرقيب المحايد. "أسِنَ الماء"، وظهر الحاكم الأمنيّ المطلق، والحاكم الاقتصاديّ المطلق، وتضررت مصالح البلاد والعباد.  
وعندما هبّت نسائم الحريّة من تونس أولاً، حيث كانت الشرارة، ثمّ من مصر، أمّ العرب حقاً، وتنفّس الإنسان العربيّ هواء نقيّاً صحت فيه نوازع طبيعيّة متشوّقة إلى العدالة الاجتماعيّة والحريّة والحلم. نعم الحلم. فقبلها كان الإنسان العربيّ مقموعاً ، والحكومة هي التي تحلم له، بالنيابة عنه. انقشع الضباب ، وفعلت مواقع الحوار الاجتماعي والمنتديات فعلها في إيقاظ الشعب. وخرجت المسيرات الخضراء (1 و2) والمظاهرات في مسقط وصحار وظفار وصور، وغيرها من المدن العمانيّة. تطالب بإصلاح النظام والمشاركة الحقيقيّة في العوائد النفطيّة، والمطالبة بإقالة رموز الفساد الأمنيّة والاقتصاديّة. حدثت مواجهات بين الأمن والمتظاهرين في صحار (27 فبراير وما قبلها)، وخرجت الأمور عن السيطرة بشكل محدود، ولكن حكمة السلطان احتوت الأمر بأبويّة عالية. فسحبت قوات الأمن ، وأخرج المسجونون ، وفتحت الدولة قناة حوار مع المتظاهرين لمعرفة مطالبهم. فهدأت الأمور شيئاً ما.
تجاوب سلطان البلاد مع تلك المطالبات وخرجت المراسيم والأوامر السلطانيّة تباعاً ، وبشكل مكثّف ومنقطع  النظير. استبشر الناس كثيراً بإقالة رموز الفساد الاقتصاديّ والأمنيّ والإداري. وأمر السلطان بإعطاء مجلس عمان صلاحيّات تشريعيّة ورقابيّة جديدة، وأمر بتشكيل لجنة لمراجعة مادة بالدستور تخوّل مجلس عمان بممارسة صلاحياته. ومن أبرز الخطوات العمليّة لتمثيل الشعب في الحكومة هو تعيين وزراء جدد من أعضاء مجلس الشورى.
خفّ الاحتقان الشعبيّ كثيراً، وتزايدت الثقة في عهد جديد يقوده السلطان إلى مستقبل مشرق، خاصة أنّ هذا السلطان نفسه شخصيّة محبوبة كثيراً من شعبه لدوره في إخراجهم من ظلمات القرون الوسطى المشار إليها. لم يعد الجميع إلى منازلهم ، فثمّة طريق طويل لتحقيق الأماني بحريّة وعدالة اجتماعيّة للجميع. الكثيرون يريدون محاكمة الفاسدين ، واسترجاع الأموال المنهوبة إلى ميزانيّة الدولة. وهي أموال ضخمة توازي ميزانيّات بعض الدول. يريدون أيضاً محاكمة جميع المفسدين الصغار والكبار. ويريدون فوق ذلك رؤيّة الآليّة الجديدة تعمل وتراقب أداء الحكومة، وتحول دون الوقوع في الفخّ ذاته مرة ثانية.
الماء الآسن – سيّدي القاريء - تخلقه البطانة الفاسدة ، وتنشّطه القوانين الضعيفة ، ويجلوه الشعب وإرادة الحاكم العادل أو أحدهما.
  
 
                   
                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق