الأربعاء، 30 مارس 2011

لماذا المدوّنة؟

اليوم فتحت هذه المدوّنة بعد تردد طويل، خوفاً من الوقت الذي تحتاجه المدونات للكتابة والمشاركة بعد ذلك.
لكن ايقاع الأحداث وضرورة التواصل معها دفعت بعيدا كل تردد.
لا بد أن يكون صوتي مسموعا.  علي أن أشارك بما أستطيع لغد أفضل لوطني وللإنسانية، ولو بكلمة واحدة تجد طريقها إلى عقل قارىء واحد.

هل أحسنت التصرف بفتح هذه المدونة أم لا؟ هذا سؤالا سأحتاج بعض الوقت للإجابة عليه لنفسي.

أيام في جزر القمر (1)
22/7/2010 ، موروني.
حنين إلى الكتابة فجَّره موقف مشاكس لحسن القمري مستقبلـُنا في مطار مروني الدوليِّ. لقد مضى على الموقف يومان، وقد نسيت مرارته الصغيرة بجمال الجزيرة الآخَّاذ وحفاوة القمريين الذين التقينا بهم، وطاقمي البحثي المكون من ميسون والناصر وقوة الإسناد المرافقة، حتى الآن. شعور يدفعني للكتابة غير المخطط لها مسبقا، أي أن أكتب يوميات لما يحدث وأنشرها بطزاجة الانطباع الأول وسرعة جريان الخبر. هل لذلك مزالق؟ نعم له مزالق ولكن لا بأس في أن أسجل يوميات رحلتي لجمهورية جزر القمر.  ولا بأس أن أكون انطباعا وأعدل عنه. ولا بأس أن يعيش قارئ جذبه العنوان عن جزر عربية ، وعضو في جامعة الدول العربية، وعلى صلة تاريخية عميقة بعمان واليمن، وما يعرفه عنها قد لا يزيد عما يعرفه عن جزر الواق واق. لا بأس في ذلك كلِّه طالما أنّي أكتب الآن بعيداً عن البحث العلميّ الذي جئت لأجله.  
إذن، لنجدف قليلا في بحيرة الواق واق، عفوا أقصد جمهورية جزر القمر المتحدة؛ التي يرأسها الآن، وفقاً لنظام تقليدي جميل لتنافل السلطة كلِّ أربع سنوات بين حكّام منتخبين من الجزر الأربع، الرئيس عبدالله سامبي (كان داعية اسلاميا تخرَّج في مدينة قم الإيرانية قبل أن يمارس العمل السياسي مستفيداً من دعم خارجي، ومما حققه بشخصيته الكارزميّة من نجاح).
كيف ننطق اسمها؟ كنت قبيل وصولي إليها أنطقها بضم القاف، نسبة إلى طيور القـُمارى ، وهي بضم القاف أيضا، التي تكثر بها. وقد قرأت هذه المعلومة في مصدر لا أذكره الآن. وأذكر جيداً أن أحد طلاب أبي مسلم ناصر بن سالم البهلاني النابهين هو برهان الدين بن مكلا القمري، الذي برَّز في علم النحو وأصبح يشار إليه بسيبويه زنجبار. وكان شاعرا لا بأس بنظمه. وعندما توفي أستاذه رثاه بقصيدة تذوب أسفاً على خسارة زنجباز بعلمها الأمكن. وأذكر أنني صوّرت هذه القصيدة الصيف الماضي من مكتبة المعلم محمد ادريس بزنجبار. وقد ضبطت قبيلة برهان مكلا، كما يتراءا لي الآن، بضم القاف. ويتبدَّى لي أمر جديد في اسم هذا العلم وهو أنه يحمل اشارتين إلى مكانين (مكلا ، بحضرموت اليمن) و القمري، نسبة إلى موطنه الأخير. وهجرات الحضارمة إلى هذه الجزر وتأثيرهم فيها لا ينافسه إلا الأثر العماني، هجرة وحكما,وتلك نقطة سنعود إليها لاحقاً، بطبيعة الحال.
أما النطق السائد لاسمها فهو جزر القـَمر، بفتح القاف، لا بضمها. وذلك – حسب الرواية المتداولة – أن المهاجرين العرب الأوائل في القرن الثامن الميلادي قبيل أن ترسوا سفنهم على شواطىء هذه البلاد، وكان القـَمر بدراً، رأوا أشعته منعكسة على صفحة مياه البحر الهادئة، فقالوا: هذه جزر القمر. وهكذا أخذت هذه الجزر هذا الاسم الحالم الجميل.
ومازلنا في بداية استقصائنا لذلك، وقد نجد لاحقاً فائدة جديدة حول أصل التسمية، سنشارك بها القارىء الكريم. غير أننا نميل – رغم شيوع التسمية الثانية – أن التسمية الأُولى هي الأَولى، ذلك أنّ التسمية الفرنسية لها – وهي مأخوذة عن التسمية العربية – ترِد بضم القاف (Comoros (.
هل نعود إلى موقف حسن الشقي؟
حسن شاب قمري يدرس بالمرحلة الجامعية الأولى في إحدى الدول الخليجية. تعرّفت عليه أثناء جمعي لمعلومات عن هذا البلد. وكان بيننا لقاء، ثم اتصالات للحصول على معلومات عن أهم الشخصيات العلميّة والمراكز البحثيّة التي عليّ الاتصال بها لانجاز مهمتي العلميّة التي سأزور البلاد من أجلها. وكان قد عاد إلى موطنه لقضاء الإجازة الصيّفيّة في ربوع بلاده.
قبل سفري بيوم اتصلت به لترتيب سيارة أجرة لنا من المطار، لأتفادى جيوش المنتفعين من سوّاح أو زوّار أجانب، مستغلين عدم معرفتهم بالبلد، كما هو الحال في كثير من بلدان العالم النامي.
على نافذة خشبية بسيطة، كنت والناصر، نكمل إجراءات الحصول على الفيزا، وقد أزعجتنا مفاجأة الرسوم المرتفعة للفيزا. قيل لنا أن سعرها هو 60 يورو (ما يعادل 30 ريالاً عمانيا). وحيث أن عددنا 6 فإن المجموع سيكون كبيراً نوعاً ما، وغير متوقع في بلد أفريقي يريد أن يجذب السوّاح إليه. سيكون مجموع ما علينا دفعه هو 360 يورو (180 ريالاً). في هذه اللحظة ظهر حسن وبصحبته موظف في المطار. عرفنا ذلك من البطاقة التي يعلِّقها على صدره. ترحيب بسيط متبادل، ثم سألت حسنا: ماذا يفعل هذا هنا؟ قال: إنه ابن عمِّي يعمل في المطار، وسيسهِّل الإجراءات لنا. ومن خلال خبرتي مع الناس في الدول الأفريقية، حيث زرت ثلاثاً منها العام الماضي، هي تنزانيا وكينيا وأوغندا، وقد زرت الدولة الأولى عدة مرات سابقة، أعرف أنه لا أحد يقدِّم لك مساعدة لأجل الثواب أو التقدير أو الإنسانية، وإنما لأجل المال والاستغلال. قلت لحسن: "هل يستطيع أن يساعدنا ابن عمك لانجاز الفيزا بقيمة أقل، أو بالقيمة نفسها لكن بسرعة أكبر؟". قال: لا.
لم أرتح لحضور ضيف في هذه اللحظة، وقلت لأحمد: "لا نريد أن نزعجك ابن عمك معنا، فاجعله يعود إلى عمله". تحدّث إليه، ثم قال لي: هو مرتاح هنا. قلت في نفسي: على الأقل أشعرته بوجوده الزائد هنا، وأننا لا نحتاج إليه.
عندما حان وقت الدفع قالت لنا الموظفة: ادفعوا 120 يورو فقط عن الكبار، ولا شيء على الأطفال. نظرت إلى الناصر فرأيت الارتياح على وجهه من هذه المفاجأة الجميلة، التي ألغت المفاجأة القديمة الثقيلة.



أيام في جزر القمر (2)
د. محمد المحروقي
خرجنا وسط الزحام والفوضى إلى سِير استلام الحقائب، وحسن وصاحبه ملازمين لنا. وكانا يستحثاننا على الخروج. تركنا قوة الإسناد في زاوية أقل هرجاً ومرجاً، وذهبنا إلى الحقائب التي تنتظرنا ، لأننا تأخرنا في إجراءات الفيزا طويلاً، وقد خرجتْ الحقائب. وهما يستحثاننا لأخذ الحقائب بشكل يدعو للتوتر. لكنني التزمت الهدوء. لقد رأيت الكثير من هذه المواقف، وإن كنت لم أتوقع المكيدة من طالب عرفته وعرفني.
وجدنا الحقائب محاطة بزمرة من الحمَّالين يريدون حملها ، وبشكل سريع. أريد أن أتأكد من أن الحقائب جميعها موجودة، وعددها سبع. وكبيرهم يستعجلني، وكذلك حسن. يقول الأخير: إنّ هذا الرجل يمارس عمله. زمجرت في الرجل قائلا: إنها حقائبي وأريد أن أحملها بنفسي، وهذا حقي. لا أريد خدمتكم. قال الرجل متراجعاً: كما تحب. لم أرتح تماماً لتلك الفوضى. إنها اللحظة المناسبة لسرقة الحقائب، عادةً. جمعت الحقائب بعضها إلى بعض، عددتها، فكانت سبعاً. قلت لأحمد والناصر: انتظراني وسأجلب عربتين. قال أحمد: لا توجد عربات هنا، ولكن سأدعو أبناء عمِّي الذين جاءوا لاستقبالك معي. لم يكن قريبه موظف المطار موجوداً ، ولا أعرف أين اختفى.
دقيقة وعاد حسن، معه شابان يلبسان الدشداشة العمانية ويعتمران الكوفية، ويكملان الأناقة بـ(كوت) فوق الدشداشة، كما هي الموضة الزنجبارية. أخذوا ثلاث حقائب للخارج إلى سيارة الأجرة. انتظرت ملاصقاً الحقائب الباقية. عادوا وأخذوا المتبقي منها. عندما خرجنا إلى السيّارة ، والهرج والمرج داخل القاعة وخارجها، في مبنى المطار الشديد التواضع، اكتشفت أن عدد الحقائب ست وليس سبعاً. "أين الحقيبة السابعة يا حسن"، قلت له. "هل هناك حقيبة ناقصة، يا دكتور؟ لقد أتينا بها جميعاً!. سأذهب وأتأكد من قاعة العفش". عاد بعد دقائق، والحزن باد عليه، وهو يخبر جوقة المستقبلين بما حدث. قال: "لم أجدها، ولكن ربما تكون مع الحقائب المفقودة. فلنبحث عنها هناك؟". قلت بنفاد صبر: فلنفعل ذلك.
أدركنا أن الحقيبة المفقودة للناصر. وكان حزيناً بشكل خاص على بعض الملابس الجديدة التي أصبحت في حكم المفقود.
مبنى المفقودات منفصل عن القاعة السابقة، وهو جديد وأضخم من السابق. كان عدد كبير من الناس يبحثون عن حقائبهم أيضاً. هرج ومرج هنا أيضاً. بحثنا، وسألنا، ولم نجد أثراً. عدنا إلى للسيّارة كي نأخذ التذاكر ثم نسجِّل بلاغاً بالحقيبة المفقودة. في هذه المواقف غالباً لا تعود الحقيبة تماماً، وإنما تقوم شركات التأمين بتعويض قليل، إذا كان المسافر قد قام بتأمين رحلته. لم أكن قد فعلت ذلك هذه المرة لتأخّر إجراءات الحصول على تذكرة من الخطوط الكينية ومكتبهم في مسقط حتى آخر يوم.
وصلنا إلى الجماعة، ووجدنا السائق غاضباً لهذا التأخير والمبلغ القليل الذي عاقده حسن عليه. قال حسن: "إن السائق غاضب جداً وهو يريد مبلغاً أكبر. أرى أن يقوم "عمّي" الذي يعمل بالمطار بإجراء البلاغ ونذهب نحن للفندق".
هذا ضغط إضافي لنذهب دون التحقق من أمر الحقيبة المفقودة.
قلت لحسن: "سأعطي السائق مبلغاً إضافياً معقولاً فوق ما اتفقتما عليه. ودعنا نركِّز على الحقيبة المفقودة، بشكل غريب!".
أخذت حسناً بعيداً وقلت له غاضباً: "هذا كثير يا حسن! لم أتوقّع منك ذلك. أولاً مشكلة الحقيبة، والآن مشكلة السائق. لقد عددت الحقائب وكانت كاملة. وقد نقصت عندما كانت بعهدتك. أنت المسؤول عمّا جرى. لماذا تفعل ذلك؟ هل عاملك أحد في بلادنا بهذه المعاملة". حاول حسن التملّص ولكنني جعلته يدرك أنني جاد ، وأنه الآن متهم عندي.
ذهب إلى أبناء عمومته – حسب ادِّعائه أنهم أبناء عمومته – قليلاً، ثم عاد وفكرة في ذهنه. حاول تلطيف الجو والاعتذار ، والقول أنه لا يعرف أين اختفت، وأنه يشعر بالحرج الشديد لهذا الموقف. صدَّقتـه بنسبة 20 %. قلت: لنذهب لتسجيل البلاغ ، ونأخذ التاكسي معنا. ذهبنا، وقبل أن أدخل مكتب تسجيل المفقودات، قال حسن: "هل هي تلك الحقيبة؟". نظرت إليها ، وميّزتها بالبلاستيك الشفّاف الذي أحرص دائماً أن ألفّ حقائبي به أثناء السفر. قلت: "نعم إنها هي بالضبط". لقد فتشت الركن نفسه سابقاً ولم تكن الحقيبة موجودة.
يبدو أنه قد غيّر خطته لحين. لكنني غيّرت خطتي أيضاً ، وقررت عدم الاستعانة به عندما وصلنا الفندق.


أيام في جزر القمر (3)
مروني، 8/8/2010م
انقطعت الكهرباء قبل قليل للمرة الرابعة، خلال الساعات الثلاث الأخيرة. كنت في فندق موفاكا الذي نصحني به الصديق الدكتور حامد كرهيلا ، وكانت نصيحته في موطنها، نظراً لوضع الفنادق في هذه المدينة. فهو ، وإن كان غالياً بعض الشيء؛ الغرفة المزدوجة بسعر 18 ريالاً عمانياً، فالغرف به تتمتع بالنظافة، والخدمة بالجودة المقبولة، ويمتلك مولداً كهربائياً، يشتغل بعد عشر دقائق من انطفاء الكهرباء العامّة. وهذه ، أي توفّر الكهرباء البديلة نعمة كبيرة في هذه الجزيرة، الرومانسية دائماً. والجزء المقصود هنا من الرومانسية هو خفوت الأضواء في الليل دائماً.
كان الانقطاع الأول حوالي الساعة السادسة عصراً، وكنت أقرأ مخطوطة عن تاريخ جزيرة القمر الكبرى، لبرهان بن مكلّا القمري، الذي أشرت إليه سابقاً. كان والد برهان يتردد على مدينة المكلاّ اليمنية، فعُرف بها. وليس انتماؤه إليها. وهو أمر أخبرني به الصديق الدكتور كرهيلا خلال جلستنا العلميّة والمفيدة صباح هذا اليوم، نقلاً عن أحمد نجل برهان الذي يعيش الآن بمدينة دار السلام.
ونسبة الأشخاص لمدنن يترددون عليها للتجارة أو الزيارة، أو لمدنن يحلمون بزيارتها ويذكرونها بشغف في أحاديثهم اليومية، وأحلامهم الصحويَّة عادة منتشرة في شرق أفريقيا. وهنا أذكر بعضاً من أقاربي يحملون ألقابا كهذه ويعتزّون بها، مثل على ممباسا ، ومحمد كايرو أي القاهرة.
وهذه المخطوطة يشير إليها كثير من الكاتبين بالعربية وكنت أتمنّى الحصول عليها. وقد بحثت عنها في زنجبار فلم أجد لها خبرا. وقد قدّمها لي على طبق من ذهب الصديق الحبيب حامد. فله الثناء العاطر والشكر الجزيل.
وقبل أن نعرض لبعض ما جاء في تلك المخطوطة نذكر للقارىء العزيز أن "جزر القمر" مكوّنة من أربع جزر متجاورة، ومتفاوتة في الحجم، وهي، أي الجزر، تقع بين مدغشقر وزنجبار. وارتبط تاريخ تلك الجزر بهما ارتباطاً وثيقاً.
وتعدّ جزيرة "انجازيجا" الأكبر بين الجزر. وتسمّى أيضاً بجزيرة القمر الكبرى، وهي التي كتب عنها الأستاذ برهان مخطوطته المشار إليها. وعاصمتها الحاليّة هي موروني (Moroni) ، وهي عاصمة الدولة أيضاً ، وبها مقرّ الرئيس والوزارات والمطار الدولي، المسمّى بمطار الأمير السيّد إبراهيم بن السيّد علي نجل آخر سلاطين الجزيرة.
أمّا حاضرة أنجازيجا القديمة فهي مدينة متسامهولِ. وقد أنتقل عنها الاهتمام الكبير إلى مروني. وتتمتع هذه الجزيرة عن شقيقاتها الثلاث بجودة هوائها. ويقول الأستاذ برهان إن سبب ذلك الامتياز هو خلّوها من الأنهار والبحيرات وتجمعات المياه التي تتسبب في رطوبة الأرض الدائمة ، وتجلب الهوَّام والبعوض الناقلة للأمراض.
وأنجوان هي الجزيرة الثانية. وتُسمّى هنزوان، وعنزوان. ويقول مؤرخها الصديق الأستاذ السيد الشريف جعفر أدهم أن هنزوان أصلها من الهناء. وعنزوان أصلها من العزِّ. ونقول إنه ربما أضيف إلى المسمّيين ما يشعر بالتثنية، للدلالة على بلوغ الغاية في الصفة المقصودة. فهنزوان تعني الهناء والهناء. وكذلك تعني عنزوان، العزّ والعزّ. أما أنجوان فهو المسمّى الذي وضعه الاستعمار الفرنسي لتهجين المسميين العربيين. فأنجوان قد تكون قادمة من هنزوان، أو من عنزوان.
وعاصمتها متسامودِ. ويقال إنّ أوّل من سكنها رجل يُدعى موسى، ويُلقّب بالأسود. فسُمِّيت البلدة باسمه: "موسى مود"، أي موس الأسود. وهذا التفسير هو التفسير الذي يرتضيه صديقنا السيّد الشريف، والله أعلم وأحكم.
وتتميّز هذه الجزيرة بنهرها الجميل وجودة أزهارها، التي مازالت تمدّ فرنسا بعصارة تصنّع لإنتاج أجمل العطور في العالم. وكانت مصانع استخلاص رحيق الزهور تكثر في الجزر الأربع, وبعد جلاء الاستعمار آلت هذه الصناعة إلى الخمود، ما عدا مصنع وحيد في انجوان، زرناه واستفدنا بمعلومات عنه؛ مستمتعين بشرح جميل عن تاريخه وعن خطوات استخلاص رحيق الزهور به. وسنعود لذلك في حينه.
عندما انقطعت الكهرباء في السادسة، انتقلت إلى الضوء المتسلل من النافذة، وغالبت النوم لقراءة المخطوط المُهِّم تحت ضوء خافت. بعد دقائق اشتغل المولِّد لنصف ساعة. بعدها عادت الكهرباء العامّة. واصلت القراءة. انقطعت الكهرباء، وهداني تفكيري للذهاب إلى المطعم المقابل، الذي لا يوجد به مولِّد كهربائي. كنت أشعر أنّني أريد الكتابة ، وأنّ المطعم البسيط بخدماته ومحتوياته هو المكان الأفضل من هذا الفندق شبه الفاره.
أنا في المطعم الآن، وقد انقطعت الكهرباء مرتين، استغللتهما لتجميع أفكاري الكثيرة عمّا سأكتب، عن جزر القمر، وقد أظلم المساء. ربما عليّ أن أشير أنني أكتب طباعة مباشرة على جهازي (اللاتوب توب).
لسبب ما عادت الكهرباء لاستمرارها المعتاد. أما حسن الشقيّ، فما إن وصلنا إلى الفندق الذي اقترحه مع أقاربه الكثيرين المحيطين به، حتى خلّصت معه حساب المستحقات؛ له وللسائق المزعج. وأنقدته ما تيسّر، وودّعته دون موعد للقاء ثان.
كان قد أثقل عليّ بمن قدَّمهم وقال إنهم أعمامه، أو آباؤه. في صباح اليوم التالي جاء، وفاجأني ومعه رجل قال إنه أبوه الحقيقي! لم تكن مفاجأة سارة لي أن يأتي إليَّ أمام الغرفة التي أنزل بها. وشكرتهما على المبادرة واعتذرت لها بانشغالي ببعض الأمور الهامّة. فتقبَّلا الموقف وانصرفا.
قررت تغيير الفندق وعدم الاتصال بحسن، وأسعفني الدكتور كرهيلا في ذلك ، وانقطع خبر حسن.

    

      

                            
الماء الآسن،
اعتصامات عمان وما قادت إليه
محمد المحروقي
22 مارس 2011م

يذكر مؤرخ عمان الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، في كتابه "تحفة الأعيان بتاريخ أهل عمان" قصة لها مغزى فيما نحن بصدد الحديث عنه، عندما يذكر سيرة الإمام غسان بن عبدالله اليحمدي، الذي ولي الإمامة بعمان أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجريين. يقول السالمي:
"عظمت النعمة على أهل عمان، واطمأن الناس برًا وبحرًا وكثرت الخيرات، وعظمت البركات وبورك لهم في الأثمار، وربحت التجّار وانبسطت الفضائل من الله عزوجل، فلم تزل الأمطار فياضة على عمان، بحيث ترى الأودية جارية والصحاري خضرا والجبال كذلك، وليس على الأمة مهم يزعجهم أو كارث يهمهم.
... وكان الإمام غسان رحمه الله يخرج يزور قبر الوارث رحمه الله (إمام سابق مات شهيداً في محاولة إنقاذ مسجونين من إغراق الوادي إياهم)، ويمشي على الغيل في الوادي يفعل ذلك كل جمعة، فيبقى هناك فيغتسل في ذلك الغيل، ثم يعود إلى الجامع لأداء فريضة الجمعة، ثم يرجع إلى الحصن. واتخذ ذلك عادة، وكان يتفقد الأحوال ويراعي بأحاسيسه نعم الله تعالى، فيرى الماء صافيًا كأنما سال ذلك اليوم، حتى رأى في بعض الأيام بالماء طحلبًا فاقشعر جلده وتأوه. وقال في نفسه: لعل حدثًا وقع فتأثر منه هذا الماء،فراجع نفسه فلم يجد عليها شيئاً، ونظر إلى الأمة وإذا بها في أوفر النعم وأكمل الأحوال. ولم يزل يقول في نفسه إن هذا أثر عن تغيير،مع أن الطحلب عادة في المياه إذا طال بها العهد. فأحضر أهل الأموال (أي أصحاب المزارع)، .. وقال لهم: أريد أحرب الهند وبيت المال لا يكفي، وأريد أن أجعل على التجار قرضا يكون أداؤه من بيت المال…  أشاوركم في ذلك فماذا ترون؟
فقال أصحاب الأموال: أيها الإمام، التجار يسعون بالفائدة ..، وإن قلّت دراهمهم ضاعت المعاملة بيننا وبينهم، ونحن أرباب الأموال والقرضة علينا بما تريد. فقال: طيب. وأسرّها في نفسه  .. (ثمّ دعى بالتجار وقال لهم مثل ذلك) ، فقال التجار: أيها الإمام أصحاب الأموال أهل حرث، وأكثر الحروب غالبا لا تكفى مغرم ما عليها، ... وليس في أيديهم شيء مما يكفي لذلك، ولكن نحن عندنا ما يريد الإمام. فقال الإمام في نفسه: هؤلاء كالأولين لا غِيَر عندهم.
ثم أحضر الوزراء وأرباب الدولة المسئولين فيها، فقال لهم: أريد أن أجعل قرضا على أرباب الأموال والتجار في بيت مال المسلمين لحرب الهند، فما ترون؟ فقال له هذا الفريق الثالث: أيها الإمام هذا شيء وقع في نفوسنا من قبل. فقال في نفسه رحمه الله العلة ها هنا.
.. فلما استقرّ عند الإمام محل الغِيَر قام فاستبدل بهم غيرهم، ثم خرج في الجمعة الآتية وهو يريد زيارة الوارث، وفي النفس التفات إلى ما وقع له، فنظر في الغيل فلم ير شيئا مما رآه سابقا، فشكر الله على ما وفق له من النظر في مصالح الأمة التي هو مسئول عنها، فأكرم بغسان وأكرم بأعماله في عمان".
مدلولات القصّة واضحة من وجوب تفقّد الراعي لأمور الرعيّة، وإصلاح فسادها قبل الاستفحال، ومحاسبة الذات أولاً، ثمّ مساءلة بقيّة شرائح المجتمع. وبعد أن تتضح الصورة على الراعي أن يتخذ القرارات الصعبة لمعالجة الفساد، حتى وإن كان إصلاحه يقتضي إبعاد أقرب المقرّبين.
إنّ الماء الآسن الذي نظره الإمام غسان ليس بالضرورة أن يكون الأمر قد جرى بحرفيته كما تذكره هذه القصّة التاريخية، وإنما أبصر الإمام ماء القلوب فاستشعر الخطر، وبدأ البحث عن أسبابه. إنّ منهجيّة كثير من المؤرخين المسلمين تصوغ الأحداث في قالب ديني، قد يكون أقرب إلى الأسطورة أحياناً، لكن ذلك لا ينفي قاعدتها الواقعيّة التي انطلقت منها. فثمة فساد حدث زمن هذا الإمام، وثمّة تحقيق جرى حوله، وثمّة قرارات حازمة اتخذت لمعالجة ذلك الفساد. وهو لبّ ما نريده. فالشعوب بطبيعتها تنحو إلى العدالة والحريّة. قد يقود ذلك الراعي، وقد يقوم به الرعاة. هي إذن استعارة "الماء الآسن" للدلالة على الفساد في صوره المختلفة.
وفي العصر الحديث مرّت على عمان أربعة عقود عجاف وطّدت الجهل والتخلّف والظلم ، وعاشت خلالها البلاد ما يشبه العصور الوسطى. كان المرض سيد الميدان الحقيقي، يقضي على الصغير والكبير. ومن نجى منه افترسه الجهل، فعانى بقية حياته صنوف الشقاء. وتغرّب العماني في البلاد المجاورة ليقوم بالأعمال المهنيّة البسيطة. وكادت تُمحى صورة السيّد العماني الذي عبر البحار وملك شرق أفريقيا وملك مدناً في الهند وفارس. وكانت عمان الكبرى إمبراطوريّة مترامية الأطراف. لا نتحدث عن الماضي السحيق وإنما عن الماضي القريب. ففي القرن التاسع عشر الميلادي كان أسطول عمان البحري أقوى الأساطيل على المحيط الهندي، بعد أساطيل المستعمرين الغربيين. وكانت الدولة العثمانيّة تستعين كثيراً به ضد الفرس الذي كانوا يهددون الخليج والعراق. وقد تمكنت بحريّة السيّد حمد بن سعيد البوسعيدي من كسر الحصار الذي فرضه شاه عباس على البصرة، وأنقذها. وظلت البصرة تدفع مقابلاً لعمان لحمايتها. أمّا القديم فالإشارة كافية إلى دور العمانيين الكبير في نشر الإسلام في الهند وما يليها، وما إليها. وكذلك دور القادة العمانيين في توطيد نفوذ دولة بني أميّة، كما هو الحال لدى المهلب بن أبي صفرة والي الأمويين الشهير، وحربه للخوارج وتخليص البصرة منهم حتى سمِّيت ببصرة المهلب.
هذه إشارات مجملة إلى حنكة الإنسان العماني السياسيّة والبحريّة مما يعطي صورة تقريبيّة عن ثراء وانفتاح إنسان عمان على العالم منذ القديم. إلا أن العقود الأربعة المشار إليها قضت على الكثير من ذلك المجد القديم حتى جاءت سنة 1970م ، لتشهد البلاد عهداً من الإصلاح قاده السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور البوسعيدي الذي نحّى والده عن الحكم في انقلاب أبيض استبشرت به عمان من أقصاها إلى أقصاها. كانت الآمال كبيرة والهمّة عالية فعاد أبناء عمان المهجّرين في زنجبار ودول الجوار للمشاركة الفاعلة في النهضة التي تشهدها البلاد. وساعد اكتشاف النفط على دعم مشاريع الحكومة التنمويّة في جميع المجالات، ابتداءً بالتعليم ومروراً بالصحة والطرق وغيرها. وأطلق السلطان مقولته المشهورة في بداية السبعينات: "سنعلّم أولادنا ولو تحت ظل الشجر". هكذا انتشرت المدارس في ربوع البلاد بأبسط الإمكانيّات. كانت المدارس عبارة عن خيام، وفي الجوار منها كانت تنشأ المدرسة من البناء الثابت. ولا وقت للانتظار.
سارت عجلة التنمية متسارعة تحت إشراف مباشر من السلطان نفسه. ونعمت عمان بالأمان الداخلي وبسمعة خارجيّة جيدة. سياستها الناجحة في التركيز على الشأن الداخلي وعدم التدخّل في شؤون الغير حققت لها نجاحاً منقطع النظير في المنطقة. فعندما اضطربت الأوضاع أبّان حرب الخليج الأولى ثم الثانية ، وكانت المنطقة على صفيح ساخن، كانت عمان بعيدة كلّ البعد عن القلق والتوتر من صواريخ سكود العراقيّة وغيرها.
ماذا حدث يوم 27 فبراير 2011م؟ ولماذا؟
شهد الفترة 1970 – 1990 تركيزاً كبيراً على البناء. وتبنّت الدولة سياسات متحفّظة في التعليم العالي والشورى، لم يكن لها أن تصمد على المدى الطويل. ففي مجال التعليم العالي لم تكن الفرصة متاحة للكثيرين من خريجي الثانويّة العامة، بله الجميع؛ إذ لا توجد سوى جامعة حكوميّة واحدة. فتحت لاحقاً جامعات خاصة أقل من العشر إلاّ أنها غير متاحة للكثيرين بسبب ارتفاع رسوم الدراسة العالي فيها. أمّا فرص البعثات الخارجيّة التي تقدمها الحكومة فهي محدودة بشكل كبير ، وبعض منها يتمتع بها غير مستحقيها من أبناء علية القوم، الذين نافسوا الإنسان البسيط في هذه المنح. كشفت الوثائق في هذا الشأن فأثارت موجة من عدم الرضا والاستهجان.
يزيد خريجو دبلوم الثانوية العامة منذ سنوات عن 50 ألف طالب. لا يستوعب التعليم العالي منهم سوى ما يقل عن 10 % ، والبقيّة بعضهم يذهب إلى سوق العمل المحدود بفرصه ، إذ ينافس الأجنبيُّ المواطن بقسوة، والمحدود برواتبه، وأكثر من النصف مصيرهم الشارع. مع مرور السنوات تزايدت المخرجات بشكل كبير جداً ، وخلقت طبقة جديدة حانقة. طبقة تجد نفسها محرومة في بلد نفطيِّ، يفتح ذراعيه للوافد الأسيوي خصوصاً، ويغلقهما عن ابن البلد. اتخذت الحكومة آليّة جديدة لمعالجة هذه المشكلة أطلق عليها عمليّة "التعمين"، إلا أنها كانت بطيئة جداً ومحدودة الاستيعاب. وكانت هذه شوكة في خاصرة الحكومة.
الشوكة الثانية هي غياب الديموقراطيّة أو الشورى الحقيقيّة ، بالتسمية المحليّة. صارت الحكومة هي اللاعب الأوحد ، تعطي وتمنع، دون حسيب أو رقيب، سوى جهاز للرقابة الماليّة والإداريّة غير فاعل وغير شفّاف يعمل في الخفاء وبسريّة تامّة. أعطت الحكومة الشعب مجلساً استشارياً أولاً، ثمّ تحوّل إلى مسمّى "مجلس الشورى"، دون صلاحيّات حقيقيّة. مجلس شبه صوري. يختار بعض كثير من أعضاء على أسس خاطئة من القبليّة والرشوة بمرأى من أجهزة الدولة التي لا تنكر ذلك بل تعزّزه. بعض الأعضاء يرشون المصوّتين ، وبعضهم يزوّرون في وثائقهم الرسميّة، ولا يوجد من يوقف ذلك. إذن الأمل الوحيد في تمثيل صوت المواطن هو عضو مشكوك في نزاهته.
شوكة ثالثة نظام قضائي غير مستقل. شوكة رابعة إعلام رسميّ متخشّب، يركّز على المنجزات الواجبة ، ويعتبرها منحاً تكرّميّة. وبذلك انعدم وجود الرقيب المحايد. "أسِنَ الماء"، وظهر الحاكم الأمنيّ المطلق، والحاكم الاقتصاديّ المطلق، وتضررت مصالح البلاد والعباد.  
وعندما هبّت نسائم الحريّة من تونس أولاً، حيث كانت الشرارة، ثمّ من مصر، أمّ العرب حقاً، وتنفّس الإنسان العربيّ هواء نقيّاً صحت فيه نوازع طبيعيّة متشوّقة إلى العدالة الاجتماعيّة والحريّة والحلم. نعم الحلم. فقبلها كان الإنسان العربيّ مقموعاً ، والحكومة هي التي تحلم له، بالنيابة عنه. انقشع الضباب ، وفعلت مواقع الحوار الاجتماعي والمنتديات فعلها في إيقاظ الشعب. وخرجت المسيرات الخضراء (1 و2) والمظاهرات في مسقط وصحار وظفار وصور، وغيرها من المدن العمانيّة. تطالب بإصلاح النظام والمشاركة الحقيقيّة في العوائد النفطيّة، والمطالبة بإقالة رموز الفساد الأمنيّة والاقتصاديّة. حدثت مواجهات بين الأمن والمتظاهرين في صحار (27 فبراير وما قبلها)، وخرجت الأمور عن السيطرة بشكل محدود، ولكن حكمة السلطان احتوت الأمر بأبويّة عالية. فسحبت قوات الأمن ، وأخرج المسجونون ، وفتحت الدولة قناة حوار مع المتظاهرين لمعرفة مطالبهم. فهدأت الأمور شيئاً ما.
تجاوب سلطان البلاد مع تلك المطالبات وخرجت المراسيم والأوامر السلطانيّة تباعاً ، وبشكل مكثّف ومنقطع  النظير. استبشر الناس كثيراً بإقالة رموز الفساد الاقتصاديّ والأمنيّ والإداري. وأمر السلطان بإعطاء مجلس عمان صلاحيّات تشريعيّة ورقابيّة جديدة، وأمر بتشكيل لجنة لمراجعة مادة بالدستور تخوّل مجلس عمان بممارسة صلاحياته. ومن أبرز الخطوات العمليّة لتمثيل الشعب في الحكومة هو تعيين وزراء جدد من أعضاء مجلس الشورى.
خفّ الاحتقان الشعبيّ كثيراً، وتزايدت الثقة في عهد جديد يقوده السلطان إلى مستقبل مشرق، خاصة أنّ هذا السلطان نفسه شخصيّة محبوبة كثيراً من شعبه لدوره في إخراجهم من ظلمات القرون الوسطى المشار إليها. لم يعد الجميع إلى منازلهم ، فثمّة طريق طويل لتحقيق الأماني بحريّة وعدالة اجتماعيّة للجميع. الكثيرون يريدون محاكمة الفاسدين ، واسترجاع الأموال المنهوبة إلى ميزانيّة الدولة. وهي أموال ضخمة توازي ميزانيّات بعض الدول. يريدون أيضاً محاكمة جميع المفسدين الصغار والكبار. ويريدون فوق ذلك رؤيّة الآليّة الجديدة تعمل وتراقب أداء الحكومة، وتحول دون الوقوع في الفخّ ذاته مرة ثانية.
الماء الآسن – سيّدي القاريء - تخلقه البطانة الفاسدة ، وتنشّطه القوانين الضعيفة ، ويجلوه الشعب وإرادة الحاكم العادل أو أحدهما.